الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
.المقصد الرابع في كيفية تصرف الكاتب في الألفاظ اللغوية وتصريفها في وجوه الكتابة: وهذه نسخة مكاتبة منه في التهنئة بمولود يستضاء بها في ذلك، وهي: قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها، أرومة رسخت عروقها، شجرة زكت غصونها؛ فرع شرفت منابته، معدن زكت علائقه، جوهر شاعت مكارمه، عنصر بسقت فروعه، محتد ذاعت محامده، أصل نجبت مآثره، سنخ خلصت مناقبه، نصاب صرحت مفاخره، نجر نمت مساعيه، أصل فضلت معالمه، عنصر نصرت محاسنه، منتمى كثرت مناقبه. فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم، مظاهر في محو ثرى الإفضال، ذخيرة نفيسة لذوي الآمال، نعمة كاملة السعادة، غبطة تصل إلى الأحرار، ابتهاج لذوي الأخطار. فتولى الله نعمه عندك بالحراسة الوافية، بالولاية الكافية، الكفاية المتظاهرة، الدفاع الكالي، الحفاظ الداعي، الصنع الجميل، الدفاع الحسن، العافية المتكاتفة. وبلغني الخبر بهبة الله المستجدة، الولد المبارك، الفرع الطيب، السليل الرضي، الولد الصالح، الابن السار، الثمرة المثمرة، السلالة الزكية، النجل الميمون، الذي عمر أفنية السيادة. زاد في مواثيق العهد والرياسة، أرسى قواعد السيادة، ثبت أساس الرفعة، أوثق عر المجد، مكن أركان الفضل، وطد أساس المكارم، أكد علائق الشرف، أبد أواخي الكرم، أبرم حبال الجود، أمر أسباب الطول، شيد بنيان الكمال، أحصف أيدي السماحة، أحكم قوى الرجاحة، أوثق عقد العلا، رفع دعائم الظهارة، أنار أعلام الغارة، أظهر علامات الخير. فتباشرت به، ابتهجت، اجتذلت، اغتبطت، فرحت، سررت، استبشرت. جعله الله براً تقياً، سيداً، حميداً، ميموناً، مباركاً، طيباً، عزيزاً، سعيداً؛ ظهيراً، عوناً، ناصراً، راجحاً، زكياً، وزراً، ملجأ. يتقيل سلفه، ويقتفي أثرهم، يسلك منهاجهم، يسن سنتهم، يتبع قصدهم، يسير سيرتهم، يسعى مساعيهم، ينحو مثالهم، يحذو حذوهم، يتخلق بأخلاقهم، يتبصر بصيرته من ينوط أفعالهم، يترسم رسومهم. وأيمن به عددك، كثر به ذريتك، أراك فيه غاية أملك، شفعه الله بإخوة بررة، وفقه الله لأداء حقك، جعله خير خلف كما هو لخير سلف. زين به العشيرة، وهب له النماء، بلغ به أكلأ العمر، مكن له في رفيع المراتب، حقق فيه فراستك، وهب له تمام الفضيلة، وأوزعك الشكر عليه، أجارك فيه من الثكل، سرك بفائدته، أسعدك برؤيته، أطاب عيشك به، متعك بعطيته، ألهمك شكر ما خولك، واصل لك المزيد برحمته. فإنه إذا أراد الكاتب أن يستخرج من ألفاظ هذا الكتاب عدة كتب بتهنئة بولد، فعل. كما إذا قال: قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها، فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم، فتولى الله نعمه عندك بالحراسة؛ وبلغني الخبر بهبة الله الجديدة المستجدة، الولد المبارك الذي عمر أفنية السيادة، فتباشرت به، جعله الله تعالى براً تقيا، يتقيل سلفه، وأيمن به عددك، وأوزعك الشكر عليه، وواصل لك المزيد برحمته، كان ذلك كتاباً كافياً في هذا النوع. فتأمل ذلك وقس عليه. .النوع الثاني: المعرفة باللغة العجمية: .المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى معرفة اللغات العجمية: وقد روى محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة بسنده إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يرد علي أشياء من كلام السريانية لا أحسنها فتعلم كلام السريانية»! فتعلمتها في ستة عشر يوماً وفي رواية قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتحسن السريانية؟ فإنه يأتيني كتب بها»، قلت لا. قال: «فتعلمها»! فتعلمتها في سبعة عشر يوماً، فكنت أجيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأ كتب يهود إذا وردت عليه وفي رواية، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا زيد تعلم كتاب يهود فإني والله لا آمن يهود على كتابي»، قال: فتعلمت كتابتهم فما مر لي ست عشرة ليلة حتى حذقته فكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه وأجيب إذا كتب وفي رواية العبرانية بدل السريانية. قال محمد بن عمر المدائني: بل قد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفهم اللغات كلها وإن كان عربياً لأن الله تعالى بعثه إلى الناس كافة ولم يكن الله بالذي يبعث نبياً إلى قوم لا يفهم عنهم، ولذلك كلم سلمان بالفارسية. وساق بسنده إلى عكرمة أنه قال: سئل ابن عباس هل تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفارسية قال نعم، دخل عليه سلمان فقال له درسته وسادته قال محمد بن أميل: أظنه مرحباً وأهلاً. وحينئذ فيكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر زيداً بتعلم كتابة السريانية أو العبرانية لتحريم الكتابة عليه لا أنه أمره بتعلم لغتهم. .المقصد الثاني في بيان ما يتصرف فيه الكاتب من اللغة العجمية: أما المخاطبة فبأن يكون لسان ملكه بعض الألسن العجمية، أو كان الغلاب عليه لسان عجمي مع معرفته بالعربية: كما غلبت اللغة التركية على ملوك الديار المصرية؛ وكما غلبت اللغة الفارسية على ملوك بلاد العراق وفارس، وكما غلب لسان البربر على ملوك بلاد المغرب مع تبعية عسكر كل ملك في اللسان الغالب عليه له في ذلك فيحتاج الكاتب إلى معرفة لسان السلطان الذي يتكلم به هو وعسكره ليكون أقرب إلى حصول قصده: من فهم الخطاب وتفهيمه، وسرعة إدراك ما يلقى إليه من ذلك، وتأدية ما يقصد تأديته منهن مع ما يحصل له من الحظوة والتقريب بالموافقة في اللسان؛ فإن الشخص يميل إلى من يخاطبه بلسانه لا سيما إذا كان يتكلم بالتركية: من العلماء والكتاب ومن في معناهم على ما هو معلوم مشاهد. وأما المكاتبة فبأن يكون يعرف لسان الكتب الواردة على ملكه ليترجمها له ويجيب عنها بلغتها التي وردت بها؛ فإن في ذلك وقعاً في النفوس، واستجلاباً للقلوب، وصوناً للسر عن اطلاع ترجمان عليه؛ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لزيد ابن ثابت بتعلم السريانية أو العبانية على ما تقدم ظاهر في طلب ذلك من الكاتب وحثه عليه. ثم اللغات العجمية على ضربين: أحدهما ما له قلم يكتب به في تلك اللغة كالغة الفارسية، واللغة الرومية، واللغة الفرنجية ونحوها؛ فإن كل منها قلما يخصه يكتب به في تلك اللغة. والثاني ما ليس له قلم يكتب به، وهي لغات القوم الذين تغلب عليهم البداوة كالترك والسودان. ولأجل ذلك ترد الكتب من القانات ملوك الترك ببلاد الشمال المعروف في القديم ببيت بركة، والآن بمملكة أزبك باللغة المغلية بالخط العربي، وترد الكتب الصادرة عن ملوك السودان باللفظ العربي والخط العربي. أما اللغات التي لها أقلام تخصها فإن كتبهم ترد بخطهم ولغتهم: كالكتب الواردة من ملوك الروم والفرنج ونحوهما ممن للغته قلم يخصه على اختلاف الألسنة واللغات. .النوع الثالث: المعرفة بالنحو: .المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إليه: وقال الرشيد يوماً لبنيه: ما ضر أحدكم لو تعلم من العربية ما يصلح به لسانه أيسر أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده وأمته؟. ومن كلام مالك بن أنس الإعراب حلي اللسان فلا تمنعوا ألسنتكم حليها. ولله در أبي سعيد البصري. حيث يقول: قال صاحب الريحان والريعان: واللحن قبيح في كبراء الناس وسراتهم، كما أن الإعراب جمال لهم، وهو يرفع الساقط من السلفة ويرتقي به إلى مرتبة تلحقه بمن كان فوق نمطه وصنفه. قال: وإذا لم يتجه الإعراب فسد المعنى؛ فإن اللحن يغير المعنى واللفظ ويقلبه عن المراد به إلى ضده حتى يفهم السامع خلاف المقصود منه. وقد روي أن إعرابياً سمع قارئاً يقرأ: {إن الله بريء من المشركين ورسوله}. بجر رسوله فتوهم عطفه على المشركين فقال: أو بريء الله من رسوله؟، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية. على أن الحسن قد قرأها بالجر على القسم وقد ذهب على الأعرابي فهم ذلك لخفائه. وقرأ آخر: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} برفع الأول ونصب الثاني، فوقع في الكفر بنقل فتحة إلى ضمة وضمة إلى فتحة فقيل له: يا هذا إن الله تعالى لا يخشى أحداً! فتنبه لذلك وتفطن له. وسمع أعرابي رجلاً يقول: أشهد أن محمداً رسول الله بفتح رسول الله فتوهم أنه نصبه على النعت فقال يفعل ماذا؟. وقال رجل لآخر ما شأنك؟ بالنصب فظن أنه يسأله عن شين به فقال عظم في وجهي. وقال رجل لأعرابي: كيف أهلك؟ بكسر اللام وهو يريد السؤال عن أهله فتوهم أنه يسأله عن كيفية هلاك نفسه فقال صلباً. ودخل رجل على زياد بن أبيه فقال: إن أبونا مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله. فقال زياد: للذي أضعته من كلامك أضر مما أضعته من مالك، وقيل لرجل من أين أقبلت؟ فقال من عند أهلونا، فحسده أخر حين سمعه وظن ذلك فصاحة فقال أنا والله أعلم من أين أخذها؟ من قوله: {شغلتنا أموالنا وأهلونا}. فأضحك كل منهما من نفسه. قال صاحب الريحان والريعان: وكان من يؤثر عقله من الخلفاء يعاقب على اللحن وينفر من خطإ القول، ولا يجيز أن يخاطب به في الرسائل البلدانية، ولا أن يوقف به على رؤوسهم في الخطب المقأمية قال: وهو الوجه. فأنديتهم مطلب الكمال، ومظان الصواب في إحكام الأفعال فكيف في إحكام الأقوال. قال ابن قادم النحوي: وجه إلي إسحاق بن إبراهيم المصعبي وهو أمير فأحضرني فلم أدر ما السبب، فلما قربت من مجلسه تلقاني كاتبه على الرسائل ميمون بن إبراهيم وهو على غاية الهلع والجزع، فقال لي بصوت خفي إنه إسحاق! ومر غير متلبث حتى رجع إلى إسحاق، فراعني ما سمعت، فلما مثلت بين يديه، قال كيف يقال وهذا المال مال أو وهذا المال مالاً، فعلمت ما أراد ميمون الكاتب فقلت له الوجه وهذا المال مال ويجوز وهذا المال مالاً، فأقبل إسحاق على ميمون كاتبه بغلظة وفظاظة ثم قال: الزم الوجه في كتبك ودع ما يجوز! ورمى بكتاب كان في يديه، فسألت عن الخبر فإذا بميمون قد كتب عن إسحاق إلى المأمون وهو ببلاد الروم وذكر مالاً حمله إليه فقال: وهذا المال مالاً، فخط المأمون على الموضع من الكتاب ووقع بخطه في حاشيته: تكاتبني باللحن؟ ويقال إنه لم يتجاوز موضع اللحن في قراءة الكتاب فقامت عند إسحاق؛ فكان ميمون الكاتب بعد ذلك يقول: لا أدري كيف أشكر ابن قادم بقى علي روحي ونعمتي. ووقف بعض الخلفاء على كتاب لبعض عماله فيه لحن في لفظه فكتب إلى عامله: قنع كاتبك هذا سوطاً معاقبة على لحنه. قال أحمد بن يحيى: كان هذا مقدار أهل العلم، وبحسبه كانت الرغبة في طلبه والحذر من الزلل. قال صاحب الريحان والريعان: فكيف لو أبصر بعض كتاب زماننا هذا؟ قلت قد قال ذلك في زمانه هو وفي الناس بعض الرمق والعلم ظاهر وأهله مكروون، وإلا فلو عمر إلى زماننا نحن لقال: {تلك أمة قد خلت}. ثم المرجع في المعرفة النحو إلى التلقي من أفواه العلماء الماهرين فيه، والنظر في الكتب المعتمدة في ذلك من كتب المتقدمين والمتأخرين. واعلم أن كتب النحو: من المبسوطات والمختصرات والمتوسطات أكثر من أن يأخذها الحصر. ومن الكتب المعتمدة في زماننا عند أبناء المشرق المفصل للزمخشري والكافية لابن الحاجب. وعند المصريين كتب ابن مالك: كالتسهيل والكافية الشافية والألفية وغير ذلك من كتب ابن مالك وغيرها. قال أبو جعفر النحاس: وقد صار أكثر الناس يطعن على متعلمي العربية جهلاً وتعدياً حتى إنهم يحتجون بما يزعمون أن القاسم بن مخيمرة قال: النحو أوله شغل وآخره بغي قال: وهذا كلام لا معنى له لأن أول الفقه شغل وأول الحساب شغل وكذا أوائل العلوم. أفترى الناس تاركين العلوم من أجل أن أولها شغل؟. قال: وأما قوله وآخره بغي إن كان يريد به أن صاحب النحو إذا حذقه صار فيه زهو واستحقر من يلحن فهذا موجود في غيره من العلوم. من الفقه وغيره في بعض الناس وإن كان مكروهاً، وإن كان يريد بالبغي التجاوز فيما لا يحل فهذا كلام محال، فإن النحو إنما هو العلم باللغة التي نزل لها القرآن وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أهل الجنة وكلام أهل السماء. ثم قال بعد كلام طويل: وقد كان الكتاب فيما مضى أرغب الناس في علم النحو وأكثرهم تعظيماً للعلماء حتى دخل فيهم من لا يستحق هذا الاسم فصعب عليه باب العدد فعأبوا من أعرب الحساب، وبعدت عليهم معرفة الهمزة التي ينضم وينفتح ما قبلها، أو تختلف حركتها وحركة ما قبلها فيكتبون: يقرؤه بزيادة ألف لا معنى لها، في كلام آخر يتعلق بالهجاء ليس هذا موضع لذكره. أما التعمق في الإعراب والمبالغة فيه فإن حكمه في الاستكراه حكم التقعر في الغريب، وقد كانوا يذمون من يتعاناه، ويسخرون بمن يتعاطاه. قال الأصمعي: خاصم عيسى بن عمر النحوي رجلاً إلى بلال بن أبي بردة فجعل عيسى يشبع الإعراب ويتعمق في الألفاظ، وجعل الرجل ينظر إليه، فقال له القاضي: لأن يذهب بعض حق هذا أحب إليه من تركه الإعراب، فلا تتشاغل به واقصد بحجتك. وخاصم نحوي نحوياً آخر عند بعض القضاة في دين عليه فقال: أصلح الله القاضي! لي على هذا درهمان، فقال خصمه: والله أصلحك الله! إن هي إلا ثلاثة دراهم ولكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهماً. فهذا وشبهه قد صار مذموماً والمتشبث به ملوماً؛ ولذلك كان بعض الكتاب لشدة اقتداره على الإعراب يعرب كلامه ولا يخيل إلى السامع أنه يعرب، فإن عرض مع التعمق في الإعراب لحن، كان ذلك أبلغ في الشناعة، وأجدر بتوجه اللوم على صاحبه والسخرية من المتكلم به. وقد قال الجاحظ: إن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتشديق والتمطيط والجهورية والتفخيم. وقال وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طريق السابلة وبقرب مجامع الأسواق. وعلى الجملة فالنحو لا يستغنى عنه ولا يوجد بد منه، إذ هو حلي الكلام، وهو له كما قيل كالملح في الطعام. قال في المثل السائر: والجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة ولكنه يقدح في الجهل به نفسه لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه وهم الناطقون باللغة فوجب اتباعهم؛ ولذلك لم ينظم الشاعر شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما وإنما عرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتصفين بصفة الفصاحة والبلاغة. قال: ولذلك لم يكن اللحن قادحاً في نفس الكلام: لأنه إذا قيل جاء زيد راكب بالرفع لو لم يكن حسناً إلا بأن يقال جاء زيد راكباً بالنصب لكان النحو شرطاً في حسن الكلام وليس كذلك فتبين أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته وإنما الغرض أمر وراء ذلك؛ وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من المنثور مع ما حكي أن اللحن وقع لجماعة من الشعراء المتقدمين في شعرهم، كقول أبي نواس في محمد الأمي: فرفع المستثنى من الموجب، وكقول المتنبي: فجمع في حالة التثنية، لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان وقد قال ركباتها. واعلم أن اللحن قد فشا في الناس، والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيباً، والنطق بالكلام الفصيح عياً. قلت: والذي يقتضيه حال الزمان، والجري على منهاج الناس أن يحافظ على الإعراب في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وفي الشعر والكلام المسجوع، وما يدون من الكلام، ويكتب من المراسلات ونحوها، ويغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم مما يتداولونه بينهم ويتحاورون به في مخاطباتهم؛ وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام مذ فسدت الألسنة، وتغيرت اللغة حتى حكي أن الفراء مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو دخل يوماً على الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه؛ فقال جعفر بن يحيى: يا أمير المؤمنين إنه قد لحن فقال الرشيد للفراء أتلحن يا يحيى؟ فقال يا أمير المؤمنين! إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع لحنت فاستحسن الرشيد كلامه. وقد قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين: ومتى سمعت حفظك الله نادرة من كلام الإعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها؛ فإنك إن غيرتها بأن لحنت في إعرابها أو أخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير، وإن سمعت نادرة من نوادر العوام وملحة من ملحهم فإياك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظاً حسناً، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها التي وضعت لها ويذهب استطابتهم إياها. قال: واللحن من الجواري الظراف، ومن الكواعب النواهد، ومن الشواب الملاح، ومن ذوات الخدور أيسر وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف ولكن إذا كان اللحن على سجية سكان البلد كما يستملحون اللثغاء إذا كانت حديثة السن فإذا أسنت واكتهلت سئم ذلك الاستملاح. قال: وممن استملح اللحن في النساء مالك بن أسماء فقال في بعض نسائه: أمغطى مني على بصري للحب أم أنت أكمل الناس حسنا؟ والناس في ذلك كله بحسب البلاد وأهلها، ألا ترى أن العرب وإن تغيرت ألسنتهم بمخالطة من عداهم فإنهم لا يخلو كلامهم من موافقة الإعراب في بعض الكلام والجري على قواعد العربية خصوصاً عرب الحجاز وأهل البادية منهم. وقد قال الجاحظ في أثناء كلامه ولأهل المدينة ألسنة ذلقة، وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة، واللحن في عوامهم فاش وعلى من لم ينظر منهم في النحو غالب.
|